فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي رواية لهما أن الله لما خلق الخلق، وعند مسلم لما قضى الله الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه فهو موضوع عنده، زاد البخاري على العرش ثم اتفقا «إن رحمتي تغلب غضبي».
(ق) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه».
زاد البخاري في رواية له: «ولو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من العذاب».
ولمسلم: «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة».
(م) عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة».
(ق) عن عمر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا والله وهي تقدر أن تطرحه فقال صلى الله عليه وسلم الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها». اهـ.

.قال ابن جزي:

{قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ} القصد بالآية إقامة البرهان على صحة التوحيد وإبطال الشرك، وجاء ذلك بصفة الاستفهام لإقامة الحجة على الكفار فسأل أولًا، لمن ما في السموات والأرض؟ ثم أجاب عن السؤال بقوله قل لله، لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة، فيثبت بذلك أن الإله الحق هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبًا عن سؤاله، إذا علم أن خصمه لا يخالفه في الجواب الذي به يقيم الحجة عليه {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} أي قضاها، وتفسير ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض، وفيه «إن رحمتي سبقت غضبي»، وفي رواية: تغلب غضبي. اهـ.

.قال البيضاوي:

{قُل لّمَن مَّا فِي السموات والأرض} خلقًا وملكًا، وهو سؤال تبكيت. {قُل لِلَّهِ} تقريرًا لهم وتنبيهًا على أنه المتعين للجواب بالإِنفاق، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره. {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} التزمها تفضلًا وإحسانًا والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده بنصب الأدلة، وإنزال الكتب والإِمهال على الكفر. اهـ.

.قال السمرقندي:

{كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} فلا يعذبكم في الدنيا.
وروى عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لله مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا وَاحِدَةً فَقَسَمَها بَيْنَ الخَلائِقِ فِبِها يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوُحُوشُ عَلَى أوْلادِها، وَادَّخَرَ لِنَفْسِهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ويقال: كتب الرحمة حيث أمهلهم، ولم يهلكهم ليرجعوا ويتوبوا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض} هذا أيضًا احتجاج عليهم؛ المعنى قل لهم يا محمد: {لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض} فإن قالوا لمن هو؟ فقل هو {للَّهِ}؛ المعنى: إذا ثبت أن له ما في السَّماوات والأرض، وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يُعاجلهم بالعقاب، ويبعثهم بعد الموت، ولكنه {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} أي وعد بها فضلًا منه وكرمًا، فلذلك أمهل.
وذكر النفس هنا عبارة عن وجوده، وتأكيد وعده، وارتفاع الوسائط دونه؛ ومعنى الكلام الإستعطاف منه تعالى للمتولّين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هُريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تَغلب غضبي» أي لما أظهر قضاءه، وأبرزه لمن شاء، أظهر كتابًا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه مقتضاه خبر حق ووعد صدق «إنّ رحمتي تغلب غضبي» أي تسبقه وتزيد عليه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قل لمن ما في السماوات والأرض} المعنى: فإن أجابوك، وإلا ف {قل لله كتب على نفسه الرحمة} قال ابن عباس: قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين.
قال الزجاج: ومعنى كتب: أوجب ذلك إيجابًا مؤكدًا، وجائز أن يكون كتب في اللوح المحفوظ؛ وإنما خُوطِبَ الخلقُ بما يعقلون فهم يعقلون، أن توكيد الشيء المؤخَّر أن يحفظ بالكتاب.
وقال غيره: رحمته عامة؛ فمنها تأخير العذاب عن مستحقِّه، وقبول توبة العاصي.

.قال أبو حيان:

{قل لمن ما في السموات والأرض قل الله} لما ذكر تعالى تصريفه فيمن أهلكهم بذنوبهم، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ذلك فإنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن ذلك لله تعالى فيلزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير ثم أمره تعالى بنسبة ذلك لله تعالى ليكون أول من بادر إلى الاعتراف بذلك.
وقيل: في الكلام حذف تقديره فإذا لم يجيبوا {قل لله} وقال قوم: المعنى أنه أمر بالسؤال فكأنه لما لم يجيبوا سألوا فقيل لهم {قل لله} ولله خبر مبتدأ محذوف التقدير قل ذلك أو هو لله.
{كتب على نفسه الرحمة} لما ذكر تعالى أنه موجد العالم المتصرف فيهم بما يريد، ودل ذلك على نفاذ قدرته أردفه بذكر رحمته وإحسانه إلى الخلق وظاهر كتب أنه بمعنى سطر وخط، وقال به قوم هنا وأنه أريد حقيقة الكتب والمعنى أمر بالكتب في اللوح المحفوظ.
وقيل: {كتب} هنا بمعنى وعد بها فضلًا وكرمًا.
وقيل: بمعنى أخبر.
وقيل: أوجب إيجاب فضل وكرم لا إيجاب لزوم.
وقيل: قضاها وأنفذها.
وقال الزمخشري: أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيد ما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض، انتهى.
و{الرحمة} هنا الظاهر أنها عامّة فتعم المحسن والمسيء في الدنيا، وهي عبارة عن الاتصال إليهم والإحسان إليهم ولم يذكر متعلق الرحمة لمن هي فتعم كما ذكرنا.
وقيل: الألف واللام للعهد، فيراد بها الرحمة الواحدة التي أنزلها الله تعالى من المائة {الرحمة} التي خلقها وأخر تسعة وتسعين يرحم بها عباده في الآخرة.
وقال الزجاج: {الرحمة} إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا، فلم يعاجلهم على كفرهم.
وقيل: {الرحمة} لمن آمن وصدق الرسل.
وفي صحيح مسلم لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه، فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ} على سبيل التقريع لهم والتوبيخ {لّمَن مَّا في السموات والأرض} من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعًا خلقًا وملكًا وتصرفًا.
وقوله سبحانه وتعالى: {قُل لِلَّهِ} تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه إشارة إلى أن الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا على دفعه دافع فإن أمر السائل بالجواب إنما يحسن كما قال الإمام في موضع يكون فيه الجواب كذلك، قيل: وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين، وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى: {قُل لّمَنِ} إلخ معناه الأمر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله.
وقوله عز وجل: {قُل لِلَّهِ} معناه أنك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا تنكره.
وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الأفعال بعد الإرشاد إلى التوحيد في الألوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين.
وفي هذا إشارة إلى وجه الربط وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك، والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي لله تعالى ذلك أو ذلك لله تعالى شأنه.
{كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} جملة مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عز وجل لجميع الخلق أثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لإنزال العقوبة بالمكذبين مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117، النمل: 33]، ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه إيجابها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء.
وقيل: هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابًا فوضعه عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي». وفي رواية الترمذي عنه مرفوعًا: «لما خلق الله تعالى الخلق كتب كتابًا عنده بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي» وفي رواية ابن مردويه عنه «إن الله تعالى كتب كتابًا بيده لنفسه قبل أن يخلق السموات والأرض فوضعه تحت عرشه فيه رحمتي سبقت غضبي» إلى غير ذلك من الأخبار، ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقًا بالخلق وأكثر وصولًا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير.
وفي شرح مسلم للإمام النووي: قال العلماء: غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته الثواب للمطيع والمنفعة للعبد تسمى رضا ورحمة وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبًا وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها (جميع المرادات)، قالوا: والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه. انتهى، وهو يرجع إلى ما قلنا.
وحاصل الكلام في ذلك أن السبق والغلبة في التعلقات في نفس الصفة الذاتية إذ لا يتصور تقدم صفة على صفة فيه تعالى لاستلزامه حدوث المسبوق، وكذا لا يتصور الكثرة والقلة بين صفتين لاستلزام ذلك الحدوث وقد يراد بالرحمة ما يرحم به وهي بهذا المعنى تتصف بالتعدد والهبوط ونحو ذلك أيضًا، وعليه يخرج ما أخرجه مسلم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السموات والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة».
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عبد الله بن عمرو قال: «إن لله تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الأرض وهوامها وما بين الهواء واختزن عنده تسعًا وتسعين رحمة حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة» والمراد بالرحمة في الآية ما يعم الدارين مع عموم متعلقها، فما روي عن الكلبي من أن المعنى أوجب لنفسه الرحمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية عند ذلك بل يؤخرهم إلى يوم القيامة لم يدع إليه إلا إظهار ما يناسب المقام من أفراد ذلك العام.
وفي التعبير عن الذات بالنفس رد على من زعم أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة.
واعتبار المشاكلة التقديرية غير ظاهر كما هو ظاهر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

جملة {قل لمن ما في السماوات والأرض} تكرير في مقام الاستدلال، فإنّ هذا الاستدلال تضمّن استفهامًا تقريريًا، والتقرير من مقتضيان التكرير، لذلك لم تعطف الجملة.
ويجوز أن يجعل تصدير هذا الكلام بالأمر بأن يقوله مقصودًا به الاهتمام بما بعد فعل الأمر بالقول على الوجه الذي سنبيّنه عند قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} في هذه السورة [40].
والاستفهام مستعمل مجازًا في التقرير.
والتقرير هنا مراد به لازم معناه، وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يفضي إلى إبطال معتقدهم الشركَ، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح، والمقصود هو المعنى الكنائي.
ولكونه مرادًا به الإلجاء إلى الإقرار كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسؤول محقّقًا لا محيص عنه، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة، فلذلك لم ينتظر السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله: {لله} تبكيتًا لهم، لأنّ الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجّة مقدّرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية.
وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلّم واحد.
فهؤلاء القوم المقدّر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقرّوا حقّيّة الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجّة.